اللحية

تحلق شلة من الأطفال في ساحة المدرسة وقد اختلط صراخهم (بلال .. بلال) ، حاول أكرم عندها التماسك وحبسَ دموعه التي بللت رموشه متظاهراً بأنه لم يتأثر كثيراً بعد أن أكدَ معظم الأطفال أن شارب بلال أكثر سواداً وأطول من شاربه! كان يشعر بالجنون فبالكاد يرى شارب بلال كخط مقتطع باهت اللون! أيعقل أن يكون شاربه (أخف) منه!
- لازم تحلق شنبك حتى يطلع!
همس له أحد طلاب الصف الذي يسبقهم بتلك النصيحة بنبرة متعالية وهو يعبث بشاربه بفخر بعد أن أشفق على حاله، فمط أكرم شفتيه بصمت وأشاح بوجهه عنه ..

بعد ساعات قلائل وبعد أن قضى أكرم يوماً موجعاً توجه إلى الحمام في وقت متأخر من الليل وأغلق الباب بإحكام خلفه ، وتنهد بقهر وهو يعبث بهدوء حذر في الأدوات الموجودة داخل الخزانة البلاستكية المتهالكة ليخرج (شفرة) الحلاقة الخاصة بأخيه ثم رفع جسده لأعلى قدر ممكن ملقياً بثقل جسمه على أطراف أصابعه ليرى وجهه في المرآة، شعر بالكآبة وهو يتفحص جوانب وجهه وخديه بدقة لا بد أن العيب في الضوء الباهت والظلال الشاحبة التي يلقيها رأسه على المرأة ، ابتلع ريقه وهو يتذكر حركات أخيه وهو يحلق شاربه وذقنه ، هذه المرة الأولى التي يقوم فيها بذلك ،ولابد أن يتقنه كي لا يكون موضع سخرية الشلة وطلاب المدرسة.

كان أكرم على أعتاب الخامسة عشر من عمره ومغامرات المراهقة وأمنيات الرجولة تتحكم بشكل طبيعي في تصرفاته البسيطة، مع كل مرور لشفرة الحلاقة على خده الأملس كان يشعر بنشوة تطفئ غليان أحاسيسه المكبوتة في داخله، سيفاجئ بلال والشلة بشارب ولحية أيضاً بعد بضعة أيام فقط ،لم يكن الأمر يتوقف عند بلال والشلة فحسب فهو يشعر بأن الفارق الوحيد الذي يجبره على الإذعان لأوامر أخيه -والذي يكبره بخمسة أعوام- هو لحيته وشاربه! ، كرر العملية عدة مرات حتى تلون وجهه بحمرة الدماء المحتقنة متأملاً أن تنمو الشعيرات سريعاً وبكثافة لتغطي ملامح الطفولة في وجهه وتثبت للجميع أنه قد صار رجلاً ، لم يكن شيء يشغل باله سوى شارب كثيف ولحية كثة، عندما تنمو قد يحلقها يومياً أو يخففها أو يطلقها أو يحددها وربما تكون – سكسوكة – المهم أن تنبت تلك الشعيرات فهي عيبه الوحيد الذي لم يتحرر منه وقد اخشوشن صوته وازداد طوله بضعة سنتيمترات وتغير قياس حذائه قليلاً فاستبدله بحذاء جديد يكبر السابق )بنمرتين( كاملتين!

لم تكن المرة الأولى التي يفكر فيها باستخدام شفرة أخيه ويعدل عن ذلك خوفاً من أخيه! كان يدرك أن مخاطرته هذه ستوقعه في مشكلة مع أخيه صباح الغد حين يرى شعيرات شاربه وقد جزها قبل أوانها ، إلا أن التخلص من نعته بالمراهق قد يستحق ما أكثر من ذلك ..

هز أكرم رأسه وأغمض عينيه مبتسماً عندما وصل إلى هذا الحد من الذكريات وهو يمرر أصابعه في لحيته الكثة عدة مرات ، ظلام دامس يجثم على شموع ذكراه ليخنقها ، وبرد شديد ينكر دفء انتماءه ورجولته ويذكره بواقع مر يمتص حلاوة اللحظات ويمزجها بسم قاتل يُعدم شتلات الأمل المخفية بين ركام الذكريات ببطء ..
سبع سنوات مضت على هذه الحادثة يحفظ دقائقها التي مرت بكافة تفاصيلها ..
نمت لحيته سريعاً وكسا الشعر الناعم لحييه ونضج باكراً رغماً عن أهله وأصدقائه وشهد الجميع (هنا) برجولته المبكرة، لم يأبه لذلك أحد كما كان يظن .. إلا عامر!
نعم أخوه الأكبر عامر وحده من صلب أحزان أكرم على جدار عمره ليفدي قضيته بكل حب دون أن يكترث لسنوات عمره هو!
سبع سنوات تماماً اكتملت له بليلته هذه منذ ذلك الحين .. هي عمر لحيته ومحنته.
و ميلاد جديد للسنة الثامنة يُقبل ناهشاً سنوات عمره وهو يقبع أسيراً خلف قضبان الاحتلال!


إهداء لأطفال زرع الاحتلال قيداً بدلاً عن فتيل شموع طفولتهم فاندثر نورها! وغدا رنين القيد ميراثاً لأحبابهم..
إهداء لأحبابهم المعتزين –دوماً- بذلك الميراث!

قصة مؤثرة

مالي دخل